فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ شَيْءٌ أَمَرَ بِهِ غَيْرُ الزَّكَاةِ لَمْ يُنْسَخْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قال: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قَالَ: هُوَ مَا لَا يَتَبَيَّنُ وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ. فَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قَالَ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالزَّكَاةُ هِيَ لَعَمْرِي شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ كَثِيرٍ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ فَأُجِيبُوا عَنْهُ بِأَنَّهُمْ سَبِيلَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ:
كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه جَلَّ وَعَزَّ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قَالَ: مَا فَضَلَ عَنِ الْعِيَالِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا الْقَوْلُ بَيِّنٌ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَفَا يَعْفُو إِذَا كَثُرَ وَفَضَلَ وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ: يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ وَفَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: قَالَ طَاوُسٌ: الْعَفْوُ الْيَسِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ لَا تُجْهِدْ مَالَكَ حَتَّى تَبْقَى تَسْأَلُ النَّاسَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ، وَسَالِمًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] فَقَالَا: هُوَ فَضْلُ الْمَالِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غَنِيًّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْعِبَارَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سَمَاعَةَ بِالْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَىَ بْنَ طَلْحَةَ، يَذْكُرُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَصَارَ الْمَعْنَى وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ: مَا سَهُلَ عَلَيْكُمْ وَنَظِيرُهُ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] أَيْ خُذْ مَا سَهُلَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَلَا تَتَقَصَّ عَلَيْهِمْ فَهَذَا الْعَفْوُ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَذَاكَ الْعَفْوُ مِمَّا يُنْفِقُونَ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَدْ تَلَا {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَايْمِ اللَّهِ لَأَسْتَعْمِلَنَّ ذَاكَ فِيهِمْ. وَقَالَ أَخُوهُ عُرْوَةُ وَتَلَا {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] قَالَ: خُذْ مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي عَدَدِ الْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الْآيَةَ وَرَوَوْا هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَوَعِيدٌ وَنَهْيٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي فَمُحَالٌ نَسْخُهُ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ تِلْكَ الْآيَةِ فَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحُّ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّأْوِيلِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] اشْتَدَّتْ عَلَى النَّاسِ وَامْتَنَعُوا مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى حَتَّى نَزَلَتْ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] الْآيَةَ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بِقُلُوْبِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِطُوا الْيَتَامَى فِي شَيْءٍ لِئَلَّا يُحْرَجُوا بِذَلِكَ، فَنَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مَا وَقَعَ بِقُلُوْبِهِمْ مِنْهُ أَيْ أَزَالَهُ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى وَبَيَّنَ مُجَاهِدٌ مَا هَذِهِ الْمُخَالَطَةُ، فَقَالَ: فِي الرَّاعْيِ وَالْإِدَامِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ تَمْرٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ وَلِوَلِيِّهِ مِثْلُهُ فَيَخْلِطَهُ مَعَهُ فَيَأْكُلَا جَمِيعًا فَتَوَقَّفُوا عَنْ هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ يَأْكُلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْيَتِيمُ فَأَبَاحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْإِصْلَاحِ وَلَمْ يُقْصَدْ فِيهِ الْإِفْسَادُ وَدَلَّ عَلَى هَذَا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أَيْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا الظَّاهِرُ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَطَةُ فِي الطَّعَامِ لَا فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ مُشَارَكَةَ الْيَتِيمِ إِنْ وَقَعَ فِيهَا اسْتِبْدَادٌ بِشَيْءٍ فَهِيَ خِيَانَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ قَدْ يُقَالُ لَهَا مُخَالَطَةٌ فَلَيْسَ بِاسْمِهَا الْمَعْرُوفِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا نَاسِخٌ فِي هَذَا وَلَا مَنْسُوخٌ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: وَمَا أَعْرِفُ آيَةً فِي الْوَعِيدِ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَوْكَدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وَالَّذِينَ فِي اللُّغَةِ عَامٌ فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّارَ عَلَى الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا وَالْآيَةُ الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الْعِشْرِينَ قَدْ أَدْخَلَهَا الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الْعِشْرِينَ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221].
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ نَاسِخَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مُحْكَمَةٌ لَا نَاسِخَةٌ وَلَا مَنْسُوخَةٌ فَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قَالَ: ثُمَّ اسْتَثْنَى نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] حِلٌّ لَكُمْ {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] يَعْنِي مُهُورَهُنَّ {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] يَقُولُ: عَفَائِفُ غَيْرُ زَوَانٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ حِلٌّ لَكُمْ وَلَيْسَ هُوَ فِي التِّلَاوَةِ وَهَكَذَا قَالَ {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] وَفِي التِّلَاوَةِ {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ وَهَكَذَا كُلُّ قِرَاءَةٍ خَالَفَتِ الْمُصْحَفَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ أَيْضًا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو.
فأما مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَاسِخَةٌ فَقَوْلُهُ شَاذُّ.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيَّ، يَقُولُ فِيهِ وَجْهٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ جَعَلُوا الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ هِيَ النَاسِخَةُ وَالَّتِي فِي الْمَائِدَةِ هِيَ الْمَنْسُوخَةُ يَعْنِي فَحَرَّمُوا نِكَاحَ كُلِّ مُشْرِكَةٍ كِتَابِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمِنَ الْحُجَّةِ لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَبَّانَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الرَّجُلِ النَّصْرَانِيَّةَ، أَوِ الْيَهُودِيَّةَ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: رَبُّهَا عِيسَى أَوْ عَبْدٌ مِنْ عَبَادِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قَالَ الْمُشْرِكَاتُ مِنْ غَيْرِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ نَصْرَانِيَّةً أَوْ يَهُودِيَّةً.
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، جَلَّ وَعَزَّ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً يُرَادُ بِهَا الْخَاصُّ فَتَكُونُ الْمُشْرِكَاتُ هَاهُنَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ.
فأما مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلَّتِي فِي الْمَائِدَةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِتَحْلِيلِ نِكَاحِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَحُذَيْفَةُ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُوسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَالْمَائِدَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَإِنَّمَا الْآخِرُ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ رَجُلًا مُتَوَقِّفًا فَلَمَّا سَمِعَ الْآيَتَيْنِ، فِي وَاحِدَةٍ التَّحْلِيلُ وَفِي الْأُخْرَى التَّحْرِيمُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ تَوَقَّفَ وَلَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ ذِكْرٌ لِلنَّسْخِ وَإِنَّمَا تُؤُوِّلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يُؤْخَذُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالتَّأْوِيلِ وَأَبْيَنُ مَا فِي الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ إِذَا كَانَتْ عَامَّةً لَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْخُصُوصِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ لَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ وَإِنَّمَا الْمُشْرِكُ مَنْ عَبَدَ وَثَنًا مَعَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَأَشْرَكَ بِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ أَبُو حَنِيفَةَ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَأَنَّ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاللُّغَةِ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ نَصًّا تُسَمِّيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] فَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَنْ قِيلَ لَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمْ يُشْرِكُوا أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْمًا إِسْلَامِيًّا وَلِهَذَا نَظَائِرُ قَدْ بَيَّنَهَا مَنْ يُحْسِنُ الْفِقْهَ وَاللُّغَةَ مِنْ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ أَصْلُهُ مِنْ آمَنَ إِذَا صَدَّقَ ثُمَّ صَارَ لَا يُقَالُ مُؤْمِنٌ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَبِعَ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُنَافِقُ وَمِنْهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْخَمْرُ سُمِّيَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ خَمْرًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَوَابُ الْآخَرُ وَهُوَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ السُّرِّيِّ قَالَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُشْرِكٌ، قَالَ وَهَذَا مِنَ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْبَرَاهِينِ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِشْرٌ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَإِذَا كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مَا لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا اللَّهُ قَدْ جَاءَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَجَعَلَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ شَرِيكًا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْعِلْمِ وَحُسْنِهِ.
فأما نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَحَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ لَهُمْ مُحْتَجٌّ بِشَيْءٍ قَاسَهُ قَالَ: لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] يَدْخُلُ فِيهِ الْأَحْرَارُ وَالْإِمَاءُ وَجَبَ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] دَاخِلًا فِيهِ الْحَرَائِرُ وَالْإِمَاءُ لِتَكُونَ النَاسِخَةُ مِثْلَ الْمَنْسُوخَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَاتِ وَالتَّمْثِيلَاتِ لَا يُؤْخَذُ بِهَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخِ بِالتَّيَقُّنِ وَالتَّوْقِيفِ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ نَصًّا {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فَكَيْفَ يُقْبَلُ مِمَّنْ قَالَ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْكَافِرَاتِ؟ وَأَمَّا نِكَاحُ الْحَرْبِيَّاتِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا مَنَعَا مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَنَصُّ الْآيَةِ يُوجِبُ جَوَازَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ مَخَافَةَ تَنْصِيرِ الْوَلَدِ أَوِ الْفِتْنَةِ وَأَمَّا نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ فَالْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِلَّا مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ، فَقَالَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَتَأَوَّلَا قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] فَهَذَا عِنْدَهُمَا عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ لَا عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْي أَوْطَاسٍ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، أَمَا سَبْيُ أَوْطَاسٍ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَاءُ أَسْلَمْنَ فَجَازَ نِكَاحُهُنَّ وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فَغَلَطٌ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ وَالنِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى الْوَطْءِ، فَلَمَّا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] حَرَّمَ كُلَّ نِكَاحٍ يَقَعُ عَلَى الْمُشْرِكَاتِ مِنْ نِكَاحٍ وَوَطْءٍ، وَفِي هَذَا مِنَ اللُّغَةِ شَيْءٌ بَيِّنٌ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: أَصْلُ النِّكَاحِ فِي اللُّغَةِ الْوَطْءُ وَإِنَّمَا يَقَعُ لِلْعَقْدِ مَجَازًا قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ أَنْكَحْتُ الْأَرْضَ الْبُرَّ إِذَا أَدْخَلْتَ الْبُرَّ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ حَسَنِ اللُّغَةِ وَالِاسْتِخْرَاجِ اللَّطِيفِ وَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] حَتَّى يَطَأَهَا وَبِذَلِكَ جَاءَتِ السُّنَّةُ أَيْضًا وَقَدْ أُدْخِلَتِ الْآيَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهِيَ الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: أُدْخِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ شَرِيعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا مَعَ الْحَائِضِ فِي بَيْتٍ وَلَا يَأْكُلُوا مَعَهَا وَلَا يَشْرَبُوا، فَنَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجُنَيْدِ الْبَغْدَادِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ «كَانَتِ الْيَهُودُ يَعْتَزِلُونَ النِّسَاءَ فِي الْحَيْضِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] الْآيَةَ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُؤَاكِلُهُنَّ وَنُشَارِبُهُنَّ وَنَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنَ الْحَائِضِ إِلَّا النِّكَاحُ فِي الْفَرْجِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْحَائِضَ وَيَنَالَ مِنْهَا مَا دُونَ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ دَالٌّ عَلَيْهِ.
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْفَرْجَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُنِي فَوْقَ الْإِزَارِ» لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَظْرِ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُوَ مَفْرُوشٌ فَهَذَا قَوْلٌ قَالَ عُبَيْدَةُ: اللِّحَافُ وَاحِدٌ وَالْفَرَاشُ مُخْتَلِفٌ وَهَذَا قَوْلٌ شَاذُّ يَمْنَعُ مِنْهُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ.
وَقَوْلٌ ثَالِثٌ أَنْ يَعْتَزِلَ الْحَائِضَ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَيْمُونَةُ وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْحُجَّةُ لَهُمْ.
مَا حَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ، مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ نَدْبَةَ، مَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ عَنْ مَيْمُونَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حَائِضٌ إِذَا كَانَ إِزَارُهَا إِلَى نِصْفِ فَخِذَيْهَا أَوْ إِلَى رُكْبَتَيْهَا مُحْتَجِزَةً بِهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: اللَّيْثُ يَقُولُ نَدْبَةَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ بُدَيَّةَ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حَظْرِ مَا تَقَدَّمَتْ إِبَاحَتُهُ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ وَأَنَّ النَّاسِخَ لَهُ.
حَدِيثُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَيْرٍ، مَوْلَى عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَائِضِ «لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ لَكَ مَا تَحْتَهُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا ادِّعَاءٌ فِي النَّسْخِ وَلَا يُعْجِزُ أَحَدًا ذَلِكَ، وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ اسْتِقَامَةً مِنْ هَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ بِنَسْخٍ وَالَّذِي قَالَ هَذَا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَاعْتَزِلُوا جِمَاعَ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعِ الْمَحِيضِ أَيْ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ الْمَحِيضُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ كَمَا أَنَّ الْمَجْلِسَ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ وَكَذَا {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222].
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] قَالَ اعْتَزَلُوا نِكَاحَ فُرُوجِهِنَّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَمَعْنَاهُ حَتَّى يَحِلَّ لَهُنَّ أَنْ يَطْهُرْنَ كَمَا تَقُولُ قَدْ حَلَّتِ الْمَرْأَةُ لِلْأَزْوَاجِ أَيْ حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَمَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ} [البقرة: 222] جَعَلَهُ بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ وَقَدْ قَرَأَ الْجَمَاعَةُ بِالْقِرَاءَتَيْنِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطَّهَّرَ.
فأما قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ إِذَا غَسَلَتْ فَرْجَهَا مِنَ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْحَيْضِ فَقَوْلٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَعَنْ ظَاهَرُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَجَاءَ الْقُرْآنُ يَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَا حَتَّى يَطْهُرْنَ أَيِ الطُّهُورَ الَّذِي يُصَلِّينَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ حَلَّتْ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى فَخَارِجٌ أَيْضًا عَنِ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ يُعْرَفُ مِنْ قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا يَمْلِكُ مَعَهُ الرَّجْعَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِلَّا أَنْ تَطْهُرَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَمْ تَغْتَسِلْ، فَقَاسُوا عَلَى هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] قَالَ مِنَ الدَّمِ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} قَالَ اغْتَسَلْنَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فَفِي مَعْنَاهُ اخْتِلَافٌ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، قَالَا فِي الْفَرْجِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ مِنْ قِبَلِ التَّزْوِيجِ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: مِنْ قِبَلِ الطُّهْرِ لَا مِنْ قِبَلِ الْحَيْضِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَأَصَحُّ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْفَرْجَ كَانَتْ فِي هَاهُنَا أَوْلَى فَإِن قِيلَ لِمَ لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ قِبَلِ الْفَرْجِ، قِيلَ لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي فَرْجِهَا، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] قَالَ عَطَاءٌ: أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهَذَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَمِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مَنْ قَالَ: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ مِنَ الذُّنُوبِ وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ. وَهَذَا أَوْلَى بِسِيَاقِ الْآيَةِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَدْ أَدْخَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهُوَ قَتَادَةُ فَذَكَرْنَاهَا لِيَكُونَ الْكِتَابُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ.

.بَابَ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَمِمَّنْ جَعَلَهَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ قَالَ: اسْتَثْنَى، وَلَفْظُ قَتَادَةَ نَسَخَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ثُمَّ نَسَخَ مِنَ الثَّلَاثِ الْحُيَّضِ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّوَاتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهِنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، وَنَسَخَ الْحَيْضَ عَنْ أُولَاتِ الْحَمْلِ فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ هَذَا بِنَسْخٍ وَلَكِنَّهُ تَبْيِينٌ بَيَّنَ جَلَّ وَعَزَّ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْأَقْرَاءِ الْحَوَامِلَ وَلَا اللَّوَاتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهِنَّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَقْرَاءِ فَقَالُوا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي، قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ، يَقُولُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الطُّهْرَ قُرْءًا، وَتُسَمِّي الْحَيْضَ قُرْءًا، وَتُسَمِّي الطُّهْرَ مَعَ الْحَيْضِ جَمِيعًا قُرْءًا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَصْلُ الْقُرْءِ الْوَقْتُ يُقَالُ أَقْرَأَتِ النُّجُومُ إِذَا طَلَعَتْ لِوَقْتِهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا صَحَّ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقُرْءَ الطُّهْرُ، وَالْقُرْءَ الْحَيْضُ وَأَنَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ يَطْلُبَ الدَّلِيلَ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مِنْ غَيْرِ اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هِيَ الْأَطْهَارُ وَيَرُدُّهُ إِلَى اللُّغَةِ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ وَسَنَذْكُرُ قَوْلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَمِمَّنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ عَائِشَةُ بِلَا اخْتِلَافٍ عَنْهَا.
كَمَا قُرِئَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ بِاخْتِلَافٍ ابْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَرَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
لِأَنَّ بَكْرَ بْنَ سَهْلٍ حَدَّثَنَا، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ اثْنَتَيْنِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالْحَدِيثَانِ جَمِيعًا فِي الْمُوَطَّأِ.
فأما حَدِيثُ زَيْدٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَالْمُخَالِفُ لَهُ:
مَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ الْأَحْوَصَ وَهُوَ ابْنُ حَكِيمٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِالشَّامِ فَهَلَكَ وَهِيَ فِي آخِرِ حَيْضَتِهَا يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ لَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا، قَالَ نَافِعٌ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقُرِئَ عَلَى بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَا يُبِينُهَا مِنْ زَوْجِهَا إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ.
فأما التَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَفِيهُمُ الْقَاسِمُ، وَسَالِمُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ فَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ وَزِيَادَةُ اثْنَيْنِ بِاخْتِلَافٍ كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اثْنَا عَشَرَ الْخَيْرُ فَالْخَيْرُ مِنْهُمْ عُمَرُ وَزَادَ وَكِيعٌ وَأَبُو بَكْرٍ قَالَا وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيَقَةً أَوْ تَطْلِيْقَتَيْنِ فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْقُرْءِ الثَّالِثِ. وَقَالَ وَكِيعٌ فِي حَدِيثِهِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْأَحَدَ عَشَرَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ وَعُبَادَةُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ وَالِاثْنَانِ بِالِاخْتِلَافِ ابْنُ عُمَرَ، وَزَيْدٌ.
قُرِئَ عَلَى بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ الْحَسَنِ عَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: مِثْلَ ذَلِكَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُوسٌ، وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ غَيْرَ هَذَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا مَا جَاءَ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِالرِّوَايَاتِ وَنَذْكُرُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ وَاللُّغَةِ مِنَ احْتِجَاجَاتِهِمْ إِذْ كَانَ الْخِلَافُ قَدْ وَقَعَ، فَمِنْ أَحْسَنِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ قَولُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ الْقُرُوءَ هِيَ الْعِدَدُ، وَالْعِدَدُ عَقِيبَةُ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ فَلَوْ كَانَتِ الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحُيَّضُ كَانَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ فَصْلٌ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهَيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».
قَالَ الْمُحْتَجُّ فَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الطُّهْرِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ} قَالَ: فَقُبُلُ عِدَّتِهِنَّ هُوَ الطُّهْرُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمُخَالِفُهُ يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ قَرَيْتُ الْمَاءَ أَيْ حَبَسْتُهُ فَكَذَا الْقُرْءُ: احْتِبَاسُ الْحَيْضِ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ قَرَيْتُ الْمَاءَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَهَذَا مَهْمُوزٌ فَاللُّغَةُ تَمْنَعُ أَخْذَ هَذَا مِنْ هَذَا وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْآيَةَ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ بِالهَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِلطُّهْرِ لِأَنَّ الطُّهْرَ مُذَكَّرٌ وَعَدَدُ الْمُذَكَّرِ يَدْخُلُ فِيهِ الهَاءُ وَلَوْ كَانَ لِلْحَيْضَةِ لَقِيلَ ثَلَاثٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ فَإِذَا جِئْتَ بِالْمُؤَنَّثِ أَنَّثْتَهُ وَإِذَا جِئْتَ بِالْمُذَكَّرِ ذَكَّرْتَهُ كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ ثَلَاثَ أَدْؤُرٍ وَرَأَيْتُ ثَلَاثَةَ مَنَازِلَ لِأَنَّ الدَّارَ مُؤَنَّثَةٌ وَالْمُنْزِلُ مُذَكَّرٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَأَمَّا احْتِجَاجُ الَّذِينَ قَالُوا الْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ فَبِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْإِجْمَاعِ وَمِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقِيَاسِ قَالُوا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَجَعَلَ الْمَيْئُوسَ مِنْهُ الْحَيْضَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعِدَّةُ وَجَعَلَ الْعِوَضَ مِنْهُ الْأَشْهُرَ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَعْنَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَنْ يُطَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامَعْ فِيهِ وَلَا تَخْلُو لِعِدَّتِهِنَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَيَعْتَدِدْنَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ يَكُونُ لِلْحَالِ أَوِ لِلْمَاضِي، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ عِدَّتِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالطُّهْرُ كُلُّهُ جَائِزٌ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهِ وَلَيْسَ بَعْدَ الطُّهْرِ إِلَّا الْحَيْضُ وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قَالُوا: فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ ثُمَّ احْتَسَبَتْ بِهِ قُرْءًا فَلَمْ تَعْتَدَّ إِلَّا قُرْئَيْنِ وَشَيْئًا وَلَيْسَ هَكَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ وَقَدِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي هَذَا فَقَالَ: التَّثْنِيَةُ جَمْعٌ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَهْرَانِ وَأَيَّامٌ فَهَذَا الِاحْتِجَاجُ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَزَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَيَكُونُ مِثْلَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْهَا وَكَذَا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ.
فَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ أَخْبَرنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةِ أَبِي حُبَيْشٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَتْ إِلَيْهِ الدَّمَ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ فَانْظُرِي إِذَا أَتَاكِ قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي وَإِذَا مَرَّ الْقُرْءُ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مِنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ» وَهَذَا لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْحَيْضَ قُرْءًا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ وَهَذَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالُوا قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالُوا فَالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَخْرُجَانِ مِنَ الْجَوْفِ وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ أَيْضًا دَلِيلٌ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا قَوْلَانِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَبَلُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ الْحَيْضُ، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا حُظِرَ عَلَيْهَا كِتْمَانُ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ لِأَنَّ زَوْجَهَا إِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ مَعَهُ الرَّجْعَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَإِذَا كَرِهَتْهُ قَالَتْ قَدْ حِضْتُ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ أَوْ قَدْ وَلَدْتُ لِئَلَّا يُرَاجِعَهَا فَنَهَيْتُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228].
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِرَدِّهَا فِي الْعِدَّةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ.
وَأَمَّا {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فَقَالَ فِيهِ ابْنُ زَيْدٍ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيهَا.
وَأَمَّا {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَذَفَهَا لَاعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ وَإِذَا قَذَفْتُهُ حُدَّتْ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَنْظِفَ حُقُوقِي عَلَى زَوْجَتِي.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَدَبَ الرِّجَالَ إِلَى أَنْ يَتَفَضَّلُوا عَلَى نِسَائِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي الْعَفْوِ وَالتَّفَضْلِ وَالِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى: دَرَجَةٌ فِي اللُّغَةِ زِيَادَةٌ وَارْتِفَاعٌ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ حَكِيمٌ فِي تَدَبِيرِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَحُدُودَهُ فِي أَمْرِ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ حَكِيمٌ فِيمَا دَبَّرَ لِخَلْقِهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَاسِخَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مُحْكَمَةً وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ.